مداخلة السيد رئيس مجلس المستشارين في الجلسة الافتتاحية_للملتقى البرلماني للجهات

مداخلة السيد رئيس مجلس المستشارين في الجلسة الافتتاحية

حضرات السيدات والسادة،

يشرفني أن أتناول الكلمة باسم مجلس المستشارين لافتتاح أشغال هذه الندوة التأسيسية للملتقى البرلماني للجهات، الذي يراد له أن يشكل إطارا للتنسيق المؤسساتي والتفكير الجماعي في القضايا والأسئلة المرتبطة بتنزيل وتفعيل الجهوية المتقدمة، يلتئم ضمنه كل الفاعلين المعنيين بالجهوية المتقدمة، من مجالس جهوية ومحلية ومؤسسات دستورية وقطاعات حكومية وتنظيمات سياسية ومهنية ونقابية وهياكل إدارية وطنية وجهوية،إلى جانب فعاليات من المجتمع المدني وخبراء وجامعيون...

واسمحوا لي في البداية بأن أوجه الشكر لكافة المؤسسات والفعاليات التي لبت الدعوة للمشاركة في أشغال هذه الندوة التأسيسية التي ننظمها تحت شعار "انخراط جماعي مسؤول في بحث ممكنات التنزيل ورهانات التفعيل"، تعبيرا عن قناعتنا بأن إنضاج ورش الجهوية المتقدمة يحتاج إلى انخراط جميع الفاعلين المعنيين في دينامية تفكير جماعي لتحقيق الالتقائية والتكامل في وجهات النظر بشأن الخيارات والأولويات المرتبطة بهذا المشروع الدولاتي الهام.

 

حضرات السيدات والسادة،

إن النموذج المغربي للجهوية، كما أعلن فلسفته جلالة الملك ورسمت ملامحه اللجنة الاستشارية للجهويةوماتلاها من ترسيم دستوري، يأتي استجابة لضرورة تاريخية تحصن المكتسبات الديمقراطية وتفتح آفاقا جديدة تشكل فيها الجهوية المتقدمة رافعة لتكريس التنمية المستدامة والمندمجة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا، ومدخلا لإصلاح عميق لهياكل الدولة من خلال السير الحثيث المتدرج على درب اللامركزية واللاتمركز الفعليين النافذين، والديمقراطية المعمقة، والتحديث الاجتماعي والسياسي والإداري للبلاد، والحكامة المسؤولة.

ومن هذا المنطلق، فإن ورش الجهوية المتقدمة، الذي يتوخى منه أن يكون حجر الزاوية في البناء المؤسساتي لمغرب الغد، لا يقوم على مجرد ترتيب تقني وإداري، بل إنه مشروع مجتمعي كرسه دستور 2011 كإطار لبلورة إستراتيجية بديلة لتحقيق تنمية سوسيواقتصادية متوازنة، من خلال الاستثمار الأمثل للمؤهلات والموارد الذاتية لكل جهة واستنهاض همم مختلف الفاعلين المحليين والمشاركة في إقامة وإنجاز المشاريع المهيكلة الكبرى وتقوية جاذبية الجهات.

وبذلك، فإن ورش الجهوية المتقدمة، على المستوى العملياتي، يجب أن يستجيبلتحديين اثنين:تمكين الجهةكفاعل أساسي على مستوى التنمية المحلية، من خلال ممارسة الاختصاصات الموكولة إليها، ولكن أيضا كشريك للدولة في السياسات الوطنية من خلال الاختصاصات المشتركة.

ومما لا شك فيه، أن المصادقة صيف العام الماضي على القوانين التنظيمية الثلاث ذات الارتباط، دشنت مرحلة جديدة في مسلسل التنزيل الفعلي لهذا الورش، بعد ما يقارب أربع سنوات من الانتظار، وأن الانتخابات الجماعية والجهوية التي شهدتها المملكة خلال شهر شتنبر المنصرم شكلت محطة سياسية حاسمة ولبنة إضافية على مستوى تفعيل الجهوية المتقدمة.

واليوم، وبعد أن تشكلت المجالس الجهوية، فإن التدبير العملياتي لورش الجهوية المتقدمة، يواجه العديد من الرهانات ذات الطبيعة الإجرائية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • رهان التوفر على رؤية واضحة بشأن أجندة التفعيل، لا سيما على مستوى أجندة التشريع. والحديث هنا على النصوص التطبيقية للقوانين التنظيمية، التي لم تر النور بعد.الأمر الذي يطرح مشكلا حقيقيا أمام المجالس الجهوية، التي ستجد نفسها على سبيل المثال ملزمة بإعداد مخططات التنمية الجهوية قبل متم السنة الجارية،وفق منهجيات مختلفة في ظل غياب سند مرجعي موحد، والتي قد تتنافى جزئيا أو كليا مع مقتضيات النصوص التطبيقية التي ستأتي بها الحكومة فيما بعد.

غير أن أجندة تفعيل الجهوية المتقدمة لا تقتصر فقط على الأجندة التشريعية، إذ أن بلوغ أهداف ومرامي الجهوية المتقدمة لا يتوقف فقط على إنتاج نصوص تشريعية، بقدر ما يتوقف على التدرج والبناء على التراكمات الإيجابية على مستوى الممارسة وآليات الحكامة. مما يستدعي إحداث إطار دائم للحوار والنقاش الموضوعاتي بين كل الفاعلين المعنيين بشكل ممنهج ومؤطر بالخبرة، بهدف تحقيق الحد الأدنى من الالتقائية والتكامل حول خيارات وأولويات التفعيل.

  • وفي ارتباط وثيق برهاني أجندة التشريع وأجندة الحوار والتنسيق المتلازمين، يطرح رهان من نوع آخر يتعلق بما يمكن أن يصطلح عليه بالقيادة الإستراتيجية لورش الجهوية المتقدمة، الذي يؤكد عليه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ضمن الرأي الذي أنجزه بتاريخ 31 مارس 2016، والذي على أرضية التوصيات الواردة به تنعقد هذه الندوة اليوم.

والحال أنه لا يمكن بلوغ الحد الأدنى من الالتقائية والاندماج على مستوى الإجراءات والسياسات التي يعتمدها مختلف الفاعلين وطنيا ومحليا، بدون قيادة إستراتيجية تنسق الخيارات والجهود وتسهر على تأطير الحوار والتنسيق بين مختلف الفاعلين المعنيين.

 

حضرات السيدات والسادة،

إن مجلس المستشارين، ومن منطلق دخوله في مرحلة دستورية جديدة، عززت اختصاصاته  وأغنت تنوع تركيبته، بما يجعل منه امتدادا للمجالات الترابية، يتطلع إلى الانخراط بقوة في هذا الورش الاستراتيجي، بأن يكون رافعة مؤسساتية للجهوية المتقدمة ومجلسا حاضنا ومؤطرا للتنسيق المؤسساتي والتفكير الجماعي في سبل إنضاج وإنجاح هذا الورش الدولاتي الهام.

وضمن هذا المنطق، يهدف "الملتقى البرلماني للجهات" إلى خلق آلية للتفاعل الإيجابي بين المجالس الجهوية  وغيرها من المجالس الترابية المنتخبة ومختلف الفاعلين والبرلمانيين، بغية تمكين أعضاء مجلس المستشارين، بمختلف انتماءاتهم، من تملك الملفات والقضايا ذات الارتباط بالجهوية المتقدمة حتى يتسنى لهم بلورتها وتوظيفها بالأولوية في عملهم البرلماني، سواء على مستوى التشريع، أو على مستوى الرقابة وتقييم السياسات العمومية، أو غيرها من أوجه العمل البرلماني.

ويتجلى الهدف الإستراتيجي من إحداث "الملتقى البرلماني للجهات" في مأسسة التنسيق، بوتيرة نصف سنوية ضمن ندوات موضوعاتية تنظم محليا بشراكة مع المجالس الجهويةوبمشاركة كافة الفاعلين المعنيين وطنيا ومحليا للتداول في القضايا والأسئلة الأفقية المرتبطة بالجهوية المتقدمة.

أما على المستوى المنهجي، فأود التأكيد على أن هذه اللقاءات الدورية وهذه الندوات الموضوعاتية التي نتطلع إلى مأسستها ضمن "الملتقى البرلماني للجهات"لا ينبغي أن تكون مجرد لقاءات شكلية بدون أفق أو مجرد تمارين في التواصل، بل يجب أن تندرج ضمن سيرورة منتظمة لمواكبة التفعيل المتدرج للجهوية المتقدمة.

وضمن هذا المنطق، يجب أنتأتي كل واحدة من هذه الدورات تتويجا لعمل وحوار مسبق ودائم، وأن تشكل فرصة لتقييم حصيلة التنسيق والحوار المشترك واستشراف الآفاق.

ومن تم، فإننا نتطلع إلى أن تفضي أشغال هذه الندوة التأسيسية التي نخصصه اللتداول في التوصيات الصادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في موضوع الجهوية المتقدمة وللتحديد التشاركي للقضايا والمواضيع ذات الأولوية،إلى اعتماد هذه المقاربة المنهجية ضمن خارطة طريق تؤثث لسلسلة الدورات المقبلة.

أيتها السيدات و السادة،

إن الإشكالية التي نقترح أن تشكل إطارا لمناقشاتنا في هذا اليوم الدراسي تحيل على ثلاث مستويات:

يتمثل المستوى الأول في أن عددا من مقتضيات القانون الدستوري للجماعات الترابية تمنح لنا جميعا أساسا معياريا لوضع حلول قانونية تنظيمية وعملية لمسألة التقائية السياسات العمومية على المستوى الترابي ومن هذه المقتضيات مبدأ التفريع subsidiarité المنصوص عليه في الفصل 140 من الدستور، ومبدأ توزيع الاختصاصات إلى اختصاصات ذاتية، ومشتركة مع الدولة ومنقولة من الدولة إلى الجماعة الترابية (ف140) وأن نقل الاختصاص يكون مقرونا بنقل الموارد (المالية والبشرية خاصة) المطابقة له (ف 141)، ومن نفس الإطار يندرج مبدأ تبوأ الجهة مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى في عمليات إعداد و تتبع برامج التنمية الجهوية والتصاميم الجهوي لإعداد التراب، في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات (ف143).  ويترتب على هذا المستوى الأول من الإشكالية تساؤل مركزي مفاده إلى أي حد تم استثمار هذه الفرص في القانون التنظيمي 111-14 المتعلق بالجهات، ويكتسي التساؤل طابعا ملحا ليس فقط بالنظر لمقتضيات القانون التنظيمي ذاته وإنما أيضا بالنظر لبطء وثيرة صدور النصوص التنظيمية المتعلقة ، وهو بطء يتعين من وجهة نظري تقييمه على ضوء متطلبات الاستغلال الأمثل وفق أولويات مضبوطة ومتناقش بشأنها مع رؤساء الجهات للأجل المنصوص عليه في المادة 252 من القانون التنظيمي 111-14، بما يمكن الجهات من ممارسة في الزمن الفعلي لاختصاصاتها.

أما المستوى الثاني من الإشكالية فيتمثل في كيفية أجرأة التوصيات الواردة في راي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بعنوان " متطلبات  الجهوية المتقدمة وتحديات إدماج السياسات القطاعية" سواء تلك المتعلقة منها بتحديد الأدوات والمقاربات المتعلقة بمجال نقل السلطات، و تحسين انسجام واندماج السياسات العمومية على المستوى الترابي وتعزيز التعاون والنهوض بمشاركة الفاعلين المؤسساتيين والترابيين وكذا تقوية آليات الديمقراطية التشاركية على المستوى الترابي. وهنا فإني أقترح أن يتم تدارس كيفيات أجرأة توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بارتباط بالتفكير المشترك في التجارب المعاشة من قبل رؤساء الجهات ومكاتبها المسيرة ومختلف أشكال التحديات المتعلقة بممارسة اختصاصاتهم الجديدة في إطار القانون التنظيمي 111-14.

ذلك أني أعتقد أن ممارسة هذه الربط بين تحليل توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي هو إطار قراءة  كفيل بتحليل مشاكل من قبيل الطابع العام لمعايير توزيع مساهمة الميزانية العامة المرصدة للجهات، وهي المعايير المنصوص عليها في المادة 1  من المرسوم رقم 2.15.997 الصادر في 30 ديسمبر 2015: 50% بالتساوي على الجهات، 37.5% بناء على عدد سكان الجهة ، 12.5% بناء على مساحة الجهة.  

وعما إذا كان من الممكن اعتماد معايير أكثر دقة، على سبيل المثال : مؤشرات الفقر والهشاشة على مستوى الجهة، نسب التجهيز بالبنية التحتية الأساسية، مؤشر الولوج إلى الصحة وإلى التمدرس.

كما أن نفس إطار القراءة نفسه يمكن مثلا من تقييم ثقل الكلفة الرمزية من زاوية الديمقراطية التشاركية لمشكل التأخر في إصدار النص التنظيمي الذي يحدد شكل العريضة الموجهة من قبل المواطنين والجمعيات قصد إدراج نقطة في جدول الأعمال (وهو النص التنظيمي المنصوص عليه في المادة 122 من القانون التنظيمي 111-14 المتعلق بالجهات).

وإن ربط تحليل توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي  والبيئي بالتجارب المعاشة حاليا من قبل مسيري مجالس الجهات هو الذي سيمكن على سبيل المثال لا الحصر من إدراك الأولوية الفائقة لتوصية المجلس المتعلقة  بإنشاء قطب اجتماعي على المستوى الجهوي في إطار اللاتمركز الإداري (التوصية رقم 56 من توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي) وهي توصية ستمكن في حال تنفيذها من تقوية التنسيق بين الجهة والقطاعات الحكومية غير الممركزة المشكلة للقطب الاجتماعي وكذا التوصية المتعلقة بإنشاء هيأة عليا على المستوى الوطني مكلفة بالقيادة الاستراتيجية للجهوية (التوصية رقم 2 من توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ).

أيتها السيدات و السادة،

أود أن اشير في معرض هذا التمرين التشاركي إلى مستوى ثالث من إشكالية يومنا الدراسي، إلى التوصيات الهامة المثارة في إطار التقرير الذي أعدته منظومة الأمم المتحدة بالمغرب لفائدة الوزارة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالشؤون العامة للحكومة والمعنون " التقائية السياسات العمومية، مسالك للفعل"، والصادر في يناير 2015  خاصة منها تلك المرتبطة بالإطار العام للالتقائية الوطنية والخطوط التوجيهية للسياسات العمومية ذات الطابع متعدد القطاعات خاصة على المستوى الترابي والشراكات بين الدولة والجهات وتشجيع المقاربات التشاركية من أسفل إلى أعلى. ومن الممكن استحضار  أهمية هذه التوصيات على ضوء الهندسة الجديدة لتوزيع الاختصاصات الذاتية والمشتركة والمنقولة بين الجهات وبين العمالات والأقاليم والجماعات وهو توزيع، بالرغم من جوانب قصوره الذي بدأت تبديه الممارسة، يبقى على العموم وفيا لمنطق القانون الدستوري للجماعات الترابية حيث تبقى الجهة كمكان لالتقائية وانسجام البرمجة والتخطيط، والعمالة والإقليم كمستوى متوسط يعهد إليه على الخصوص بتصحيح الاختلالات المتعلقة بالولوج إلى الخدمات أوالتجهيزات الأساسية على مستوى العمالة أوالإقليم و الجماعات كمستوى للقرب. ويجدر التذكير بهذا الصدد أن آليات الشراكة والتعاون بين الجماعات تشكل إجابة مؤسساتية ملائمة على تحديات أجرأة سياسات عمومية تهم وحدات سوسيومجالية unités socio-territoriales تتجاوز المجال الجغرافي لجماعة ترابية.

أيتها السيدات و السادة،

أود في الأخير   أن أذكركم جميعا كل من موقعه بأهمية كسب رهان استدامة وانتظامية هذا الملتقى كآلية تشاورية بين مجلس المستشارين والجهات والمجتمع المدني،  ستمكن الجهات من المساهمة فعليا، عبر أرضيات ملائمة وتفاعلية، بمقترحاتها في تحديد الموضوعات ذات الأولوية المتعلقة بممارسة اختصاصاتها المختلفة خاصة منها المتعلقة بالحكامة والتقائية السياسات العمومية، مما سيتيح لمجلس المستشارين أيضا ترجمة فعلية لهذه الانشغالات على مستوى التشريع والمراقبة وتقييم السياسات العمومية.

أتمنى لأشغال الملتقى كامل النجاح

 

وأخيرا، أجدد الشكر لكافة الفاعلين الحاضرين على انخراطهم المسؤول في هذه المبادرة، وأتمنى لأشغالنا كامل التوفيق والنجاح.

                                             وشكرا على حسن الإصغاء.